قصّة واقعيّة طبيبة الجنّ

تعود أحداث قصتنا إلى ثمانينات القرن الماضي في دولة مصر العربية، حيث كان هناك رجل يدعى عبد العزيز شديد أبو كف، وينادونه بأبو كف نسبةً لاسم جده. وقد كان مستواه التعليمي ضعيفًا، ما جعل من الصعب عليه الحصول على فرصة عمل جيدة. فقرر الالتحاق بالقوات المسلحة وهو في الثلاثين من عمره، ولم يكن محظوظًا في ذلك أيضًا.

فبعد أشهر من التحاقه بالجيش، شارك في حرب الاستنزاف بقناة السويس، مما تسبب له في إصابة خطرة بإحدى الشظايا في عموده الفقري، ليصاب بشلل دائم. حاول الأطباء مساعدته بالأدوية وحتى العمليات الجراحية، لكن حالته كانت صعبة، ولم يستطيعوا إنقاذه من الشلل. فاستسلم للأمر الواقع في النهاية، وترك المؤسسة العسكرية وعاد إلى قريته ليعيش ما تبقى من حياته مقعدًا مع أهله.

وكانت حالته النفسية هي الجزء الأصعب في تلك المرحلة، حيث إنه شعر بالعجز التام في ذلك العمر. فلم يكن يقبل التحدث مع أحد، حتى أهله وأصدقائه إلا نادرًا. فبقي على تلك الحالة وحيدًا منعزلًا في غرفته لأسابيع طويلة تحت قلق أهله عليه.

وفي أحد الليالي، بينما كان في غرفته يشعر بالقلق واليأس، شاهد دخانًا أحمر في كل مكان حوله. فتساءل عن مصدر ذلك الدخان الغريب، لكنه لم يستطع النهوض أو التحرك من مكانه. فبدأ ينادي أهله، لكن لم يسمعه أي أحد، إلى أن ظهر من داخل ذلك الدخان عجوز ترتدي لباسًا أبيض.

لينصدم في مكانه دون النطق بكلمة واحدة. فابتسمت بوجهه ليزداد هلعه، ويبدأ بالبسملة وتلاوة القرآن، إلى أن دق باب غرفته لتختفي تلك العجوز فجأة.

تدخل أخته الغرفة تسأله إن كان بخير، فقد كان يرتجف من شدة الخوف في مكانه. فقال لها: “ألم تشاهدي أي شيء غريب في غرفتي الآن؟”

فأجابته: “لا يا أخي، وماذا تقصد بشيء غريب؟” حينها هدأ باله قليلاً، وبدأ يشك في أن ما رآه كان وهماً بسبب كثرة انعزاله وبقائه وحيدًا.

عاد إلى نومه حتى اليوم التالي، وقد انقضى اليوم كالمعتاد إلى حلول الليل. بينما كان جالسًا يشعر بالملل، ظهر له نفس الدخان مرة أخرى، تلاه خروج تلك العجوز مجددًا، لتتقدم نحو فراشه بخطوات خفيفة قائلة:

“لا تخف مني، أنا لست هنا لأؤذيك، أنا أدال الحاجة وأنا من الجن المسلم. وقد قدمت إليك لتقديم عرض يقبل لك قبوله أو رفضه.”

فأجابها مرعوبًا: “ما هذا العرض ولماذا أنا؟”

“اسمع يا بني، أنا قادرة على شفائك بإذن الله في لحظات، وهذا ما أستطيع تقديمه لك، لكن بشرط واحد.”

“ما هو هذا الشرط؟ وكيف لك بشفائي وليس لدي أي دواء؟”

“أنا في الأصل طبيبة عشيرتي من الجن المسلم، ونحن نتقدم عليكم أنتم يا بني البشر في الطب وفي مجالات أخرى. لن تخسر شيئًا، سوف أعالجك، وإن نجح ذلك، سوف أزوجك من ابنتي.”

حينها ارتبك من كلام هذه العجوز، فقال لها: “ابنتك ومن تكون ابنتك، إن كنت أنت من الجن؟ فابنتك مثلك أيضًا، فكيف لي أن أتزوج منكم وأنا من البشر؟”

“كلنا عباد الله يا ولدي، مهما كان جنسنا. وأنت ستتزوجها على شرعنا وشرعكم، ونحن مسلمون مثلكم.”

“حسناً يا حجة، سأفكر في الموضوع وأعطيك رداً في الغد إن شاء الله.”

“حسناً، لا مشكلة في ذلك. سأعود إليك في الليلة القادمة لأسمع جوابك.”

ثم اختفت من أمامه، وبقي هو مصدوماً يفكر في الموضوع، وهو لا يصدق ما رآه وسمعه. وفي اليوم التالي، اتخذ قراره وقرر إخبارها به عند عودتها. وعند قدومها ليلاً مجددًا، سألته:

“ماذا قررت؟ الشفاء والزواج أم العجز والوحدة؟”

“مرحبًا يا حجة، لقد كنت بانتظارك. لقد أخذت قراري الأخير، وأنا أقبل بعرضك. لكن سوف أتزوج من ابنتك بعد أن أشفى.”

“لك ذلك، لكن غداً سيكون شفائك، ثم سيليه زواج من ابنتي في نفس الليلة.”

واختفت مجددًا دون أن تترك له فرصة للاستفسار عن أي شيء آخر. فعاد هو إلى نومه، ليستيقظ في صباح اليوم التالي، حيث أحس بشيء غريب في جسده. فقد أصبح يشعر بساقيه مجددًا وأنه قادر على تحريكهما. حينها، انهمرت دموعه فرحًا، وصار يصيح بأعلى صوته:

“الحمد لله، الحمد لله، شكرًا يا حجة، شكرًا يا حجة!”

ليهرع كل أهله إلى غرفته، ظنًا منهم أن مكروهًا قد أصابه. لكن بمجرد دخولهم، صعقوا من هول الصدمة عندما رأوه واقفًا على قدميه من جديد ويمشي كما كان سابقًا. لتعم الفرحة الجميع، وتتقدم إليه أخته سائلاً.

“كيف حدث هذا؟ فالأطباء قالوا إنه لا أمل في شفائك. لقد سمعناك تقول: شكرًا يا حجة، شكرًا يا حجة! ماذا تقصد؟ ومن تكون هذه الحجة؟”

“لا يهم، لا يهم، أنا بخير الآن ولم أعد عاجزًا كما في السابق.” ليتركهم ويخرج ليتنزه قليلاً بالخارج ويذهب لحلاقة شعره وشراء بعض الملابس النظيفة، لأنه يعلم أن الليلة سيتم زواجه من ابنة الحجة.

وفي المساء، عاد إلى المنزل مجددًا وطلب من أهله عدم الدخول إلى غرفته من دون إذنه. ثم توجه للداخل منتظرًا قدوم العجوز وابنتها ليشكرها ويوفي لها بوعده. وبعد ساعات، حضرت الحجة مع ابنتها وقدمتها لعريسها الذي انبهر بحسن جمالها. لتتم مراسم زواجهم، بينما كان الأهل يسمعون أصوات غناء وضحك ومزامير بداخل غرفة ابنهم، لكنهم رفضوا الدخول أو سؤاله تلبية لطلبه السابق.

وفي صباح اليوم التالي، توجه أبو كف إلى أهله وأخبرهم بأنه يريد الانتقال إلى مسكن خاص به، لأنه أصبح كبيرًا في السن ويفضل العيش في منزل يخصه وحده. فلم يرفض أهله ذلك، لأنهم يعلمون ما مر به ابنهم وأن ذلك قد يحسن من نفسيته. لكن في الحقيقة كان ذلك طلب الحجة وليس طلبه، فقد قالت له في الليلة السابقة:

“اسمع يا بني، لقد أمنتك على ابنتي الوحيدة وعالجتك مما أصابك. وأنت كنت على عهدك وتزوجتها، لذلك سأعطيك علمي وقدرتي في علاج الناس. ستكون أنت الوسيط بيني وبينهم، لكن ستحتاج إلى الانتقال إلى بيت آخر خاص بك. يكون المكان الذي سنعالج فيه المرض ويكون مسكنًا لك ولزوجتك حتى تشعر هي بالراحة والخصوصية أيضًا.”

بعد يومين، انتقل أبو كف إلى شقة استأجرها بالقرب من بيت أهله، وفتح بها مركزًا للعلاج المجاني للمحتاجين. وبمجرد سماع الناس بذلك المركز، صاروا يتوافدون عليه من كل مكان. والغريب أنه كان يعالجهم جميعًا بدون استثناء، مهما كان مرضهم. وكان يعالج حتى الأمراض الخبيثة بالأعشاب، ولم يكن يأخذ من الناس غير خمسة قروش من الشخص الواحد. ومن لم يكن لديه ذلك المال، كان يعالجه مجانًا ويشتري له الأعشاب اللازمة من ماله الخاص. فذاعت شهرة أبو كف في البلد بأكمله وصار حديث الرأي العام في تلك الفترة باسم أبو كف الذي يعالج جميع الأمراض بدون مقابل. وطبعًا في الحقيقة، كانت الحجة هي التي تشخص المرضى وتخبره بما يفعله وما يجب عليه قوله. فبقي على ذلك الحال لسنتين، وزادت شهرته حتى أتى يوم قام أحد الأشخاص بالإبلاغ عنه للشرطة بأنه شخص يزاول مهنة الطب بدون ترخيص. ليستجيب رجال الشرطة للبلاغ فورًا ويتوجهوا إلى عيادة أبو كف ويلقوا القبض عليه.

وعند التحقيق، اعترف بكل ما نُسب إليه بأنه كان يعالج الناس بدون ترخيص أو شهادة. حينها، تم إحالته أمام القضاء بعد أيام من سجنه. وفي اليوم الموعود، كانت المحكمة ممتلئة بالناس والصحافيين من كل مكان، نظرًا لأن أبو كف في شخصية مشهورة ومحبوبة بين الناس الذين كانوا يساعدهم لوجه الله.

وعند بدء المحاكمة، سألته القاضي: “أنت المدعو أبو كف؟ هل تنفي التهمة الموجهة إليك بمزاولة مهنة الطب بدون شهادة أو ترخيص؟”

“يا سيدي القاضي، أنا لم أكن طبيبًا ولم أقل لأي شخص بأني طبيب. فقد كنت أشخص الناس وأعالجهم بالأعشاب فقط، ومجانا.”

“وكيف كنت تشخص الناس وتعالج إن كنت لم تدرس الطب ولا تفقه به شيئًا؟”

“لم أكن أنا من يشخص ويعالج تحديدًا، بل كانت الحجة هي من تفعل ذلك.”

“من تكون هذه الحجة؟ وهل تتهمها بما نُسب إليك؟”

“لا يا سيدي، إن الحجة من الجن وليست من الإنس. لا يمكن لأحد غيري رؤيتها.”

“هل تعاني من أي مشاكل نفسية يا ولدي؟”

“لا يا سيدي. أعلم أن لا أحد يصدق ذلك، لكن هل يمكنك أن تعطيني مجالًا لأثبت صحة كلامي؟”

“أها، لا كذلك، لكن اختصر في كلامك فليس لدينا وقت كثير.”

فنظر أبو كف إلى القاضي والمستشارين لبضع ثوان وقال: “أنت يا سيدي لديك مشكلة في القلب تعاني منها منذ ثلاث سنوات، وهي انسداد في الشريان التاجي. وأما أنت يا سيدي المستشار الأول، فتعاني من حصى الكلى وتفكر في القيام بعملية جراحية قريبًا. وأما أنت يا سيدي المستشار الثاني، فتعاني من الصداع النصفي المزمن الذي يؤثر على حياتك وعملك.”

حينها عم السكوت المكان، وحتى القاضي ومستشاريه ارتبكوا ولم ينفوا ما قاله. واكتفوا بالنظر لبعضهم، إلى أن قرر القاضي إدخال الشهود ليدلوا بشهادتهم تجاه هذا الرجل. فبدأ بالدخول واحدًا تلو الآخر، وكان كلامهم جميعًا عن طيبة أبو كف وكيفية مساعدته لهم في علاج أمراضهم دون أخذ أي مقابل منهم. حينها نطق القاضي بحكمه وأقر ببراءة أبو كف، نظرًا لأن ما يمارسه ليس بطب، لأنه لم يدعي بأنه طبيب ولم يوهم الناس بذلك، كما أنه ليس بلص لأنه لم يأخذ مقابلًا من الناس الذين كان يساعدهم مجانًا. فلا تهم من تدينه أو تجعله يمكث في السجن.

فصاح كل المتواجدين بالمحكمة فرحًا ببراءة أبو كف، الذي أطلق سراحه في نفس اليوم ليخبر الصحافة أن الحجة كانت متواجدة بالمحكمة وتسانده طوال الوقت، لأن حقه ليس بباطل. ومنذ إطلاق سراحه، اختفى أبو كف ولم يُسمع عنه أي شيء بعد تلك الحادثة. فهنالك من أشاع بأنه ذهب إلى عالم الجن للعيش مع الحجة وزوجته، وهناك من قال إنه اعتزل الطب بسبب المشاكل التي حدثت له، على الرغم من مساعدته للناس.

النهاية.

تعليقاتكم تسرنا.

Exit mobile version