أنا صحفي في جريدة معروفة، ولأن المدير كان يرى فيّ قدرات جيدة ويعتبر مقالاتي جميلة، قرر نقلي إلى قسم الفن دون أن يستشيرني. ولما سألته عن السبب، وأخبرته أنني لست راضيًا عن هذا القسم، قال إن هذا هو الأنسب لمهاراتي، وأنه أكثر الأقسام جذبًا في ذلك الوقت. بصراحة، لم أقتنع بكلامه، ومع ذلك، لم أجادله ووافقته.
بعد حوالي عام من اجتهادي في هذا القسم، طلبت منه النقل إلى قسم آخر. لكن قبل أن أخبركم إلى أي قسم انتقلت، يجب أن تعرفوا أنه على الرغم من نجاحي خلال تلك السنة، لم أطلق شائعات واحدة. كل ما في الأمر أنني كنت أعمل بجد وأبني علاقات في الأماكن الصحيحة، وهي الأماكن التي تتيح لي الحصول على أخبار تخليني أسبق أي شخص. وهذا ما ميزني، لذا عندما طلبت من المدير نقلي، وافق بعد أن أخبرته أنني سأضطر لترك الجريدة إذا لم يُنفّذ طلبي. ولأنه لم يكن يريد خسارتي، نقلني إلى قسم الحوادث والوفيات.
كان يظن أنني لن أرتاح هناك وسأطلب العودة لمكاني الطبيعي، لكن العكس هو ما حدث. شعرت أن هذا القسم كان هو ما أحتاجه. وذلك ما اكتشفته عندما بدأت العمل بمجرد أن انتقلت. وكما تعلمون، كان علي أن أبدأ ببناء علاقاتي.
هنا قد يتساءل البعض: ما نوع العلاقات التي يمكن بناؤها في قسم مثل قسم الوفيات؟ هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي، وكانت إجابتي شيئًا واحدًا: المشرحة.
فالموت مع بعض الإثارة يجعل المشرحة هي مكان العمل المثالي. لذا، اخترت أكبر مشرحة في المحافظة وزرتها.
هناك، قابلت الحارس، عم فتوح. قدمت له رقمي وطلبي منه كان بسيطًا، وهو أن يُبلغني عن أي جثة تأتي وأي سر ملموس معها. ومع كل معلومة سأتلقاها منه، سيكون هناك مقابل، لأن لا شيء يأتي بلا ثمن.
اليومين دول، ومع ذلك، لم أشعر بالخسارة في عم فتوح. ومن هنا أستطيع أن أقول إنني تغيّرت كثيرًا مما كنت عليه، لأنني لأول مرة أخوض تجربة فيها الموت بعينه.
هذا ما حدث بعد مرور عدة أيام من مقابلتي لعم فتوح، عندما اتصل بي. كنت لا أزال أرتب أوراقي ولم أكتب أي شيء للجريدة، لذا رددت عليه بشغف: “إيه يا عم فتوح، جالك جديد؟”
رد فتوح: “وجديد كمان يا أستاذ صابر! المصلحة عمرها ما تروح، والمصلحة جاهزة بس انت راسيني على الجديد.”
فقلت له: “لا لا لا، على مهلك! لا تزور، انت تجيلي تشرب معايا كوباية الشاي وأنا ههرثيك على كله.”
أجاب: “ماله يا عم فتوح، انت تؤمر واحنا ننفذ! أجيلك امتى؟”
قال: “ما يشغلكش التوقيت. احنا ما بنعتمدش الساعة، أنا موجود من دلوقتي. لو تحب، مستنيك يا أستاذ.”
أنهيت المكالمة مع عم فتوح ونزلت. نعم، طريقتهم غريبة ومريبة، لكنني كنت قد اعتدت عليه منذ أن عرفته. ولم يكن ذلك يهمني كثيرًا طالما أنه سيفيدني ويعطيني ما أحتاجه. لذلك، لم أفكر كثيرًا وذهبت إليه.
عندما وصلت، وجدته جالسًا أمام المشرحة، يدخن سيجارة، وكان متسلطنًا ويغني لصباح. وعندما رآني، عرض عليّ سيجارته وقال: “تدخن يا أستاذ ولا صدرك نضيف؟”
أجبته: “لا، لا، سمح الله! نضافة الصدر دي نعمة لصاحبها. بصراحة، محسوبك بيدخن من الابتدائية.”
ضحكنا وقلت له: “قبل ما أسيبها، عورّت عيل زميلي في نص دماغه. أترى التعليم ما كانش قاري؟ ولا الدنيا؟”
استمرينا في الحديث حتى جاء دورنا. قلت: “ربنا يديك الصحة يا عم فتوح، بس رسيني.”
وعندها أخبرني: “الحكاية اللي جبتني مخصوص علشانها هي أن جالي من حوالي أسبوعين واحد زميلك اسمه ممدوح، لكنني ما أعرفش حد اسمه ممدوح.”
“الله، وأنتوا في الصحافة ما تعرفوش بعض؟”
رد عم فتوح: “برضه، أصله كان صحفي زيك كده، وسبحان الله، جالي علشان أخدمه. أصلاً محسوبك ما بيجليش مع حد.”
فنظرت إليه وقلت: “واديك هتشوف يا عم فتوح. أنا نفسي أشوف اللي أنت شايفه. انجز وقول لي، انت جايبني ليه؟ وبعدين، بقى نعرف قصة زميلي ممدوح.”
قال: “مش لماح انت برضه يا أستاذ. أصل اللي جايبك لأجله هو ممدوح، اللي مش نازل لك من زور.”
فاستغربت: “يا سيدي، ما ينزلي من زور ليه بس؟ هو الراجل عمل حاجة ولا أنا أساسًا ما أعرفه!”
أجاب: “الله يرحمه، بقى مات، وزمانه بيتحاسب جوه المشرحة.”
فقلت: “مات؟! آه، مات. الراجل عمره خلص. هل هنحتاج نعترض ولا إيه؟”
أجاب: “لا، بس أنا مش فاهم انت عاوز توصل ليه.”
فقال: “كل اللي عايز أوصله لك، حاجة واحدة. من أسبوعين كده، جالي طلب مني يخش المشرحة علشان يبص على جثة كانت طازة لسه جاية. أصل زي ما أنت عارف، شغلتكم دي بتاعة حوارات ولُبش. وهو كان جاي في اللبش ده، والجثة اللي كان عايز يشوفها كانت عليها كلام كتير. بس اللي أنت ما تعرفوش بقى إن دخول المشرحة مش بالسهل. ومفيش غير واحد بس اللي بيخشها بالليل، واللي عليه القصد هو دكتور طارق. لكن العبد لله ما يصعبش عليه حاجة. ففي المستخبي، دخلت دكتور طارق وهو قاعد بيشرب سيجارته. وعشان مات، قلت له: “الزيتونة” وسبته. أصل لو دخلت يبقى فيها مشكلة، ونحنا ما بنحبش المشاكل، وهو مفيش أسهل من حراسة الميتين.”
“وازاي يعني يعمل كده، ده ميت! ولو حرمته!”
رد عم فتوح: “جرى يا أستاذ، مالك كده؟ ما انت كنت جاي لبش برضه، وهي كلها محصّلة بعضها. وبعدين، الجثة جوه بتعمل إيه يعني؟ ما هي عدم، لا مؤاخذة، بتلعب فيها.”
فأجبته: “ما تناي ألفاظك يا عم فتوح، في إيه مش كده؟”
أكمل عم فتوح: “خلاصة الأول، يا أستاذ. أم الصحفي، كانت هنا من شوية، وقبل ما ابنها يخش المشرحة، كانت بتتكلم إن موته ما كانتش طبيعية. والحوار كده شكله جاي في سكة قتل. ودلوقتي، هنتظر نشوف التقرير بتاعه بيقول إيه. أصل أنا أحب أشوفه، وانت كمان هتحب.”
سألت: “طب أنا لو دخلت هيبقى فيها حاجة؟”
فقال: “الله! مش الميت لو حرمته برضه؟”
أجابته: “ما أنت هتاخد اللي يراضيك يا عم فتوح برضه.”
قال: “ماشي، وطالما جبت عشان تراضي، يبقى أنت كمان هتترد. علشان أنت وشك سمح وحظك حلو، فالدكتور هيشرب سيجارته بعد شوية. ولما الشوية دول يخلصوا، استناني قدام باب المشرحة اللي ورا. هناك هتاخد المفيد.”
وفعلاً، استنيت عم فتوح حوالي نص ساعة قدام الباب اللي ورا لحد ما جاء. حينها، فتح لي الباب وقال لي…
“تخش آخر الدور، يلا، ما قدامكش غير 10 دقايق، وقبل ما يخلصوا تكونوا قدامي.”
علشان أختصر الوقت، دخلت من الباب ومشيت زي ما قال لي بالضبط. في الوقت ده، لقيت نفسي قدام أوضة التشريح، ولما دخلتها، اتقفل الباب ورائي نتيجة إنه بيتقفل لوحده. مش علشان حاجة يعني، ومع إنني شايف البتاع الحديد وعارف معلومة زي دي، إلا أنني برضه اتنفضت في مكاني لدرجة أن قلبي كان هيتخلع من الخضة. ومع ذلك، دورت على جثة ممدوح لحد ما لقيتها، وكانت محطوطة على سرير التشريح. والذي خلاني أعرف إنها هي دي جثته هو التقرير اللي لسه ما اتكتبش، بس كان محطوط جنب الجثة وباسم ممدوح.
لكن الأمور ما مشيتش زي ما كنت مخطط. بمجرد ما حاولت أشيل الغطاء من على الجثة، سمعت حاجة ترزع عند ثلاجة الميتين. ويا ريتها جت على الرزع وبس! ده مع سمعت صوت واحد بيصرخ، والصوت كان جاي من هناك، من عند الثلاجة. من الرعب، أخدت بعضي وجريت برا. وأول ما شفت عم فتوح، بصيت له بزعر، وأنا ببلع ريقي وباخد نفسي بالعافية. قلت له: “هو في إيه؟ هم الميتين صحيوا؟”
رد: “لا. سيبك من الكلام ده. اهو انت مش هتعمل زي صاحبك الصحفي وتقول لي صوت ترزيع وناس بتصرخ؟ آه، ما أنا ما أخدتش لفة مرتين. محسوبك فاهم، واديك شايف اللي حصل له لما ما رضيش يراضيني ومشي. أصل العبد لله يعرف ربنا كويس قوي، واللي يجي عليا.”
سألته: “هو قال لك إنه سامع صوت ترزيع وصوت حد بيصرخ؟”
“آه، كلام ما يدخلش العقل. أنا أهو شغال هنا بقالى سنين. أي نعم لا بدخل ولا بطلع، بس إيه اللي حصل يعني؟ ولا أي حاجة. ولو في أصوات، ما انت طلعت صخ سليم وما فكش خربوش، عدم لا مؤاخذة. هو بس تلاقي الميتين بيتحاسبوا ولا حاجة. ما هو اللي عملوه في دنيتهم يخليهم ما يستنوش قبرهم.”
رد عم فتوح: “يا عم، انت بتقول إيه؟ خلينا في اللي احنا فيه. قولي، ممدوح ما قلكش حاجة تانية لما طلع؟”
فأجبته: “ولا شفته من ساعتها، كانه فص ملح وذاب. هو بس لو أنا ما خرفتش. يعني، أنا لمحتوه من يومين بيتمشى قدام المشرحة.” رديت عليه وأنا بطلع فلوس من جيبي، وقلت له: “ماشي يا عم فتوح، ومظبطك أهي، دول القرشين اللي معايا دلوقتي. وما تقلقش، شكلنا كده هنتقابل كتير الفترة اللي جاية بالاذن.”
رد بمرح: “وماله، تنور يا أستاذ! طالما إيدك مليانة، يبقى محسوبك معاك في أي حوار. بالسلامة، أنت، واروح أنا بقى أحق الورديه قبل ما تخلص.”
وأول ما عم فتوح مشي، أخدت بعضي أنا كمان ورجعت البيت. هناك، كتبت خبر وفاة الصحفي مع كام معلومة قالها لي عم فتوح، ومن المعلومات دي والدته اللي شاكه في قتله. كمان كتبت عن المشرحة دي من أسبوعين قبل ما يرجع لها مرة تانية، بس المرة دي وهو جثة ما فيهاش الروح. ولما خلصت الخبر، بعته للجريدة ونزل، وزي ما توقعت، كسر الدنيا كالعادة. مش بس كده، الصحف اللي على قدها كمان خدوا الخبر كوبي بيست ونزلوه عندهم. لكن بعد إيه؟ بعد ما إحنا خدنا السبق ونزلنا الخبر. دي من الحاجات اللي بتميزك كصحفي، ومع العلم إني ما قلتش ولا معلومة مغلوطة. حتى نيتي كانت خير. أنا كل اللي كنت عايز أعرفه هو الحقيقة، وممكن بالخبر ده حاجات كتير تنكشف بعدها. طب إيه بقى هي الحاجات دي؟ هو ده اللي هنعرفه بعدين.
ولأن اليوم كان طويل، والنوم اتملك مني، دخلت أوضتي وفردت ضهري على السرير، وبعدها نمت نوم عميق. صحيت منه وأنا في مكان إضاءته عالية. ولما ركزت، لقيت نفسي جوه أوضة تشريح. ومش بس كده، ده كان في جثة قدامي سايحة بالكامل من جواها. ويا ريتها جت على قد اللي أنا شفته ده وبس. دي الجثة قامت من على السرير وقربت مني، وبعدها همست في وشي “بالنجده”. بس إزاي، إزاي قامت من مكانها وهي بالمنظر ده؟
لكن بسرعة جت لي الإجابة لما شفت كائن قدامي لكنه مشوش. وأقصد بمشوش، أي حاجة غير راسه، راسه اللي كان باصص بيها ناحيه الثلاجة وهو بيقول بصوت رفيع جدًا: “مش حقيقي، كل اللي انت شايفه هنا مجرد سراب. سراب، الحقيقة هتعرفها بعدين. اهرب، اهرب وما تجيش هنا تاني!”
“بعدها كمل كلامه بصوت خلّى ودني أصفر. قلتلك اهرب!” من صوته العالي، غمضت عيني، ولما فتحتها لقيت نفسي نايم على سريري، وكل حاجة كانت طبيعية، بس أنا اللي ما كنتش طبيعي. بمجرد ما استوعبت اللي حصل، افتكرت إن الجثة دي تبقى جثة ممدوح اللي شفتها وقت ما دخلت أوضة التشريح. ولأني كنت حاسس إن دي إشارة واضحة وصريحة، طلعت موبايلي واتصلت بعم فتوح.
“أه يا عم فتوح، أنا احتمال أحتاجلك كتير الفترة دي، وما تقلقش، هترضى.”
رد: “يا أستاذ مساء الفل! طيب، ولا أي حاجة، ولا أنت إيه؟ بتكلم ميت من الميتين اللي شفتهم إمبارح؟”
فأجبته: “وده صح برضه، يا عم فتوح، أنت الخير والبركة كلها. خلاص، نتكلم في المفيد.”
قلت له: “المفيد إن أنا عايزك تصور لي التقرير بتاع جثة ممدوح، بس بسرعة يا عم فتوح، قبل ما التقرير يتبعت للنيابة.”
يتبع
الجزء الثاني