يحكى أن امرأة أقامت مع زوجها سنين طويلة دون أن تحمل. ذات يوم، بينما كانت عائدة مع زوجها إلى البيت ليلاً، مرَّ بهما كلب أسود نبحهما. فجفلت المرأة وقالت في سرها: “لو رزقني الله بنتًا، لزوجتها أسودًا.” مرت الأيام وإذا بالمرأة تشعر بآثار الحمل، ففهمت أن الله قد استجاب لدعائها، لكنها خشيت أن ترزق ببنت فتضطر عندئذٍ للوفاء بنذرها. وكان ما خشيت منه، إذ رزقها الله ببنت ففرحت بها هي وزوجها، فقد ملأت حياتهما أنسًا وبهجة، ونسيت الأم نذرها.
ومرت الأيام فكبرت البنت، وأرسلتها أمها إلى الكتاب لتتعلم القراءة والكتابة. وذات يوم، كانت البنت عائدة من الكتاب إلى البيت، مرَّ عليها أسود ونبح، فخافت وابتعدت عنه. فتبعها الكلب وقال لها: “قولي لأمك أوفي نذرك.”
مضت البنت إلى البيت، ونسيت أن تقول لأمها ما قاله لها الكلب. وفي اليوم التالي، قال لها الكلب ما قاله لها في اليوم الأول، لكنها نسيت أيضًا. وكذلك الحال في اليوم الثالث. وفي اليوم الرابع، سألتها الكلب: “لماذا لا تقولين لأمك ما أوصيك به؟” فأجابته بأنها تنسى، ووعدته أن تفعل. فحذرها من النسيان، وأعطاها قطعًا من الحلوى وطلب منها أن تضعها في جيبها.
وعندما بلغت البنت البيت، نسيت أيضًا أن تقول لأمها ما أوصاها به الكلب، لكن الأم رأت قطع الحلوى في جيب ابنتها، فسألتها عن مصدرها. فذكرت الكلب وأخبرتها بما أوصاها به، وذكرت الأم نذرها وحزنت لذلك. ولما جاء زوجها في المساء، أخبرته بالأمر فحزن الأب، وقال للأم: “لابد من الوفاء بالنذر.”
وبات الأبوين يهيئان نفسيهما لفراق ابنتهما، وكأنه في كل يوم على موعد مع الكلب الأسود. وفي ذات يوم، قرع الباب، فخفق قلب الأم، وسرعت تفتحه. وإذا بالكلب الأسود في الباب، فأدركت قصده. ورجعت إلى البنت، وقالت لها: “تهيئي يا بنتي.” ثم حكت لها ما كان من أمر النذر. فاستجابت البنت ودخلت على أبيها فودعته، ثم ودعت أمها وخرجت إلى الكلب.
مضت تسير إلى جانبه تاركة أبويها يبكيان. وسار الكلب بالبنت حتى بلغا خارج البلدة. فطلب منها أن تصعد على ظهره، فصعدت. فطار بها وحلق في أجواء الفضاء وهي متشبثة به. وبعد زمن من التحليق، سألها: “كيف ترين الأرض؟” فأجابت: “مثل صينية كبيرة.”
فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال. فقالت: “مثل الصحن الكبير.”
فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال. فقالت: “مثل الصحن الصغير.” وعندئذٍ حط بها، فإذا هي أمام قصر فخم، فرشه من الديباج وغطائه من الحرير. تتصاعد من حوله أبخرة المسك والكافور.
تركتها العجوز هناك وغابت، فأخذت تجول في أنحاء الغرفة مدهوشة مما ترى من أثاث ورياش. ثم أطلّت من النافذة، فرأت أمامها فناءً واسعًا في وسطه بركة ماء تترقرق أمواجها الناعمة وتسبح فيها الأسماك الملونة. وتتنقل على أطرافها الطيور، وتحيط بها الأشجار المزهرّة من شتى الأنواع.
نزلت إلى حديقة القصر، وأخذت تتسلى وتمرح حتى كان المساء. فرجعت إلى مخدعها، وقدمت لها الخادمة بعد عشاء فاخر فنجان قهوة. فشربته، فاستحست بنعاس لذيذ، فاستسلمت لنوم عميق.
وفي الصباح، نهضت الفتاة على رائحة الأزهار وشدو العصافير. أحست بالراحة، على الأقل لا تسمع هنا صياح أمها وقولها المستمر بأنها لا تصلح لشيء. ما الذي سيفعله الكلب عندما يعلم أنها تعيش حياة الأميرات؟ كان الكلب يجيئها بأحسن الطعام وأفخر اللباس ومواد التجميل. ولما سالته لماذا يفعل ذلك، أجابها: “ليلة اكتمال القمر، سيأتي سيدي ويتزوجك، فكوني في أحسن حال.”
وكل مرة تحاول الفتاة معرفة من هو سيدها وكيف شكله، كان يجيبها بأنه جميل الوجه كالبدر، وسيعجبك. لم يكن أمام الفتاة ما تصنعه سوى تخيل ذلك الفتى الذي سيأتي للزواج منها. ولكن السؤال الذي لم تعرفه هو: لماذا اختارها هي من دون البنات؟ وهل هو من الإنس أم الجن؟
أمضت الفتاة بقية الأيام وهي تتفرج على الزهور وتدور في القصر، وتعجبت لأنه لم يكن هناك أحد، لا من الحراس ولا الخدم، ولا ترى سوى الكلب الذي يظهر أمامها ثم يختفي كأن الأرض ابتلعته. وفي النهاية، عرفت أن هناك بابًا لا تراه العين يدخل منه الكلب ويخرج. هذا ما جعلها تشعر بالخوف. ماذا يوجد خلف ذلك الباب؟ ومن يضمن لها أن مخلوقات مرعبة لن تأتيها في الليل عندما تكون مستغرقة في النوم؟
كانت الفتاة لطيفة وجميلة، وقد زادتها أثواب الحرير والزينة التي على وجهها فتنة وحسنًا. وصار الكلب يتأخر في الانصراف، يجلس إلى جانبها وهو يحرك ذنبه بسعادة. وأدركت الفتاة من إحساسها أن هذا الكلب فتى مسحور ووراءه سر كبير يجب أن تعرفه.
وفي الغد، تعطرت وطلت شفتيها بصباغ وردي جميل، وجلست تنتظر الكلب. وكعادته، ظهر فجأة أمامها وفي يده طبق الطعام والشراب. فمسحت على رأسه ودعته للأكل معها. فتردد قليلاً ونظر إليها، ولكنها ابتسمت له. فلم يستطع أن يقاوم جمالها،
وقال: “حسناً، لقمة واحدة لا غير، وإلا نالني العقاب الشديد.”
أطعمته الفتاة وقالت له: “لقمة أخرى تشتهيها عيناك.” ولما أكل، قالت: “واحدة أخرى يتذوقها لسانك.” وكل مرة تمد له الطعام، يأكل، ولما شبع، قال لها: “أنت في خطر. وبعد يومين، سيأتي سيدي ملك الجن ويتزوجك. ومرة في الشهر، ليلة اكتمال القمر، يتحول إلى شاب وسيم ويتزوج بنتًا من الإنس، آتي بها كل شهر. وهكذا الحال منذ سنين طويلة.”
أجابت الفتاة: “وأين المشكلة في ذلك؟ ليست هذه أول مرة يتزوج الجن من الإنس.”
أجابها: “ليس كل الجن مثل بعض. وهؤلاء عاشوا منذ أقدم الأزمنة وهم يأكلون الناس. وهذا الجنس قد هرم وتناقصت أعداده، لذلك فإن الملك يتزوج من إنسية ليكون لهم نسل جديد، ولما يكبر الجنين في بطن أمه، فستتحول إلى طعام له. ومن أتيت بهن كثيرات، وكلما تدعو امرأة على ابنتها، أحضرها لملك الجن.”
توقفت الفتاة عن الأكل وصاحت في ذعر: “يعني أني سأموت؟”
أجابها: “لا. وكل هذا يجب أن ينتهي. وبعدما اعترضت على ما يفعلونه، حولني الملك إلى كلب. لقد عشنا طويلاً، والآن انتهى زمننا. اسمعي، يجب أن نهرب.”
“المشكلة أن الدخول والخروج من القصر صعب، لأن الوحيد الذي يقدر على فتح البوابة هو الملك. وفي رقبته هناك سلسلة يتوارثونها عن جد، فيها قفل ومفتاح، ويجب الاحتيال عليه لسرقتهما.”
سألت: “وكيف ذلك؟”
أجابها: “ليلة اكتمال القمر، سأحضر لك شرابًا مسكرًا أصنعه من الزمان، فاسقيه حتى ينام، واخلعي السلسلة من رقبته، ثم ناديني لكي نخرج معًا بعدها.”
قال لها: “سأذهب الآن، فالعيون كثيرة في القصر، والجن يحذرون مني كثيراً. نفذي ما قلت لك، وسنهرب من هذا القصر. لم يتبق على اكتمال القمر سوى يومين.”
أمضت الفتاة الأيام في قلق وخوف شديدين. في الليلة الأخيرة، سمعت نعيق الغربان في حديقة القصر، فانقبض قلبها. رويدًا رويدًا نزل الليل، وكان القمر بديعًا يرسل نوره على شرفتها. وكانت أنظار الفتاة مركزة على الحائط الذي يظهر منه الكلب. لكنها سمعت طرقًا على الباب، وحين التفتت نحوه، وجدت فتىً طويلًا ووسيمًا يبتسم لها. فتفاجأت كثيرًا، ولم يكن يختلف عن غيره من الفتيان باستثناء حسن هيئته وملبسه.
ثم تقدم منها، ووضع في عنقها قلادة ثمينة من الذهب، وفي معصميها الأسورة. وتحدث معها بلطف وأدب إلى درجة اعتقدت أن الكلب يكذب عليها.
ثم قال لها: “لقد رأيتك في القصر، وأحببتك، وأريد أن أزوجك هذه الليلة، وأجعلك ملكة. بعد ذلك يمكنك الخروج والذهاب إلى أهلك.”
تساءلت الفتاة: “إذا كان الملك قد رآني، فلماذا انتظر شهرًا ليأتي؟” أخذ الفتى يناجيها ويقول لها أروع الكلام، وفي النهاية قررت أن تعمل بنصيحة الكلب وألا تغتر بما تراه عيناها.
قدمت له طبق الفاكهة ونبيذ الزمان، فانبسطت نفسه وصار يتأمل وجهها وعينيها الكبيرتين وهي تقدم له الكأس تلو الآخر. لكنه بقي صاحيًا ولم ينام، رغم أنه أفرغ الإبريق. خشيت الفتاة أن يستفيق من سكره، فأمسكت بالإبريق وضربته على رأسه بقوة. فصرخ صرخة عظيمة وسقط على الأرض، وبدأ يتحول إلى مخلوق بشع المنظر.
انتزعت السلسلة من رقبته، ثم نادت للكلب. ولما رأى ملك الجن على الأرض وقد سال دمه، قال لها: “لن يتركك تعيشين بسلام، وسيقلب الأرض بحثًا عنك. والآن هيا نخرج.” وحين أصبحوا في بهو القصر، أدارت الكلب المفتاح في القفل فانفتحت بوابة في الحائط، خرجا منها. ثم ركبت الفتاة فوق ظهر الكلب الذي طار بها في ذلك الليل، وكان معه صرة.
فسألت: “ماذا في هذه الصرة؟” فأجابها: “ياقوت وزمرد سرقته من خزائن الملك.”
ردت الفتاة: “أعتقد حقًا أن وضعنا سيء.”
صمتت قليلاً، ثم فجأة سألت: “أين تنوي الذهاب بنا؟”
فأجابها: “ليس من الحكمة أن ترجيعي الآن لدار أبيك. أعرف شعبًا من الجن، وهم لا يؤذون أحدًا، وطباعهم مثل الإنس. تعالي نذهب ونحتمي بهم.”
لما وصلوا إليهم، طلب الكلب رؤية ملكهم، وقص عليه حكايته. فاعتذر عن إيوائه.
“شجرة يستريحان، وقد قارب الصباح على الطلوع.” هذا ما كان من أمر الفتاة والكلب. أما ملك الجن، فحين نهض اكتشف سرقة القفل والمفتاح، فهاج وماج. فبدونه، تظل البوابة مفتوحة لا يمكن إغلاقها. واكتشف أيضًا سرقة اليَاقوت، فضرب على جبينه وقال: “الأمير شيراز هو من دبّر هروب الفتاة.
ولقد حولته إلى كلب، وكان علي قتله منذ البداية. ولكن لن يبتعد كثيرًا، وإذا وجدته، سأجد أيضًا تلك اللعينة. يجب أن أقبض عليهما، وإلا سينتهي أمر هذا الشعب، وسأكون آخر الملوك.”
أرسل العفريت جواسيسه إلى قرى الجن المحيطة به وكذلك البعيدة، وأيضًا إلى قرى الإنس……
يتبع…….