“خلاص، نتكلم في المفيد.”
المفيد إن أنا عايزك تصور لي التقرير بتاع جثة ممدوح، بس بسرعة يا عم فتوح، قبل ما التقرير يتبعت للنيابة.
قال: “صعبة دي، بس مش على العبد لله. علشان الحوار يقضى، هنراضي واحد من اللي شغالين جوه دلوقتي. وعلى ما تيجي ورديتي، تجيلي، والصورة تبقى عندك.”
أجبته: “اللي أنت عايزه، عم فتوح، ومش هنختلف، بس زي ما قلتلك، تلحق تصوره قبل ما يتبعت للنيابة.”
رد: “عيب بقى يا أستاذ، ما أنت عارف العبد لله ما بيجليش أشوفك بالليل. سلام.”
بعدها، طلعت على الجريدة اللي كان شغال فيها ممدوح. ولما وصلت، سألت عن واحد منهم لو كان قريب منه، وفعلاً عرفت واحد اسمه حسني، كان أقرب واحد لممدوح. واللي عرفت منه إن ممدوح كان راجل مجتهد وبيحب شغله، لكن في الفترة الأخيرة ما كانش مظبوط، ومش بس كده، كان ما بيجيش الجريدة كتير. وكل ما كان حسني بيكلمه، ممدوح كان بيرد عليه وبيقول له إنه بيحضر لمقالة كبيرة قوي هتكسر الدنيا، ولكن للأسف ما لحقش وتوفى قبلها. وبعد وفاته، ما حدش فاهم إيه اللي حصل، اصل هو ما كانش بيعاني من أي مرض تقريبًا. ما حدش فاكر إنه أخد إجازة مرضية طول فترة الشغل معاهم. وعشان كده حسني كان شاكك إن الحكايه وراها قصة كبيرة، لكنه ما قدرش يعرف حاجة عنها. وبس ده كل اللي عرفته من حسني.
ولأن وقتها الساعة كانت اتأخرت، وده معاد وردية عم فتوح، أخذت بعضي وطلعت على المشرحة. وهناك، لقيت عم فتوح قاعد ومستني.
“مساء الفل، عم فتوح! هاه، خلصت اللي طلبته منك؟”
طلع موبايله من جيبه وأده لي وهو بيقول: “أمال إيه، خلصته طبعًا! وادي الموبايل، خليت الواد عبد الفتاح يبعتلي الصورة هنا. وعدم مؤاخذة، هتلاقيه على معرض الصور.”
أخذت الموبايل منه وفتحت التقرير، وهنا كانت الصدمة. التقرير ما كانش فيه أي حاجة، بالعكس، ده مكتوب فيه إن الوفاة كانت طبيعية! لكن أكيد في حاجة غلط. علشان أعرف الغلط ده فين، كان لازم أزور أهل ممدوح. أكيد عندهم حاجة ممكن تفيدني.
وحصل! أدّيت الموبايل لعم فتوح وسبته. وعلى الرغم من إنه فضل ينادي عليا، إلا أني كملت ومشيت، لأن كل اللي كان في دماغي وقتها هو حاجة واحدة: أنا لازم ألقى أهل ممدوح في أسرع وقت.
وعلشان ألقىهم، استنيت تاني يوم ورحت الجريدة اللي كان شغال فيها. عرفت من حسني إنه أهله موجودين. ومن غير ما أضيع وقت، طلعت على بيتهم. خوّبت على الباب، واللي فتحت لي كانت بنت صغيرة يعني حوالي 15 سنة كده.
مساء الخير، أنا صابر، زميل ممدوح، وكنت عايز أعرف كل حاجة بخصوص وفاته.” بمجرد ما جبت سيرة ممدوح، اكتشفت العبط اللي أنا عملته. البنت دمعت وبدت تعيط. ومع ذلك، طلبت مني أدخل. ولما دخلت، لقيت ست كبيرة لابسة أسود وقاعدة على الكنبة وبتعيط. وقتها، من البديهي كده عرفت إنها والدة ممدوح. ولأني كنت تعبان من الطريق، قعدت على الكرسي المقابل للكنبة اللي هي قاعدة عليها. وفي اللحظة دي، لقيت ملامح الحزن على وشها اتحولت، وانفعلت عليا.
وقالت: “أنت بقى صابر، أنت اللي ما صدقت ونشرت عن ابني الكلام ده. ما تخافش، أنا ما بعرفش الغيب، بس أنا سمعتك وانت بتكلم ناديه على الباب.”
بلعت طريقي وأنا برد عليها: “أنا كل اللي كنت عايزه حاجة واحدة بس، لو ممدوح له حق يظهر. وده كان هدفي من الخبر. لكن أنا مغلطتش في أي معلومة، ولا حتى أسأت له. لو جاي تعزي، فواجبك وصل. أما بقى لو جاي عايز حاجة تانية، فأنا ابني كان زي الفل والكل كان بيحلف فيه، علشان هو زي الفل. أنا عايز أعرف مين اللي عمل فيه كده. وحتى لو الموضوع ما يستوعبوش عقل، أنا مستوعبه ومصدقه. موت ممدوح كان غريب، وأكيد في سر إحنا ما نعرفوش.”
أرجوكي، صدقيني وساعديني. وأنا أهو بحلفلك، مش هنزل كلمة واحدة هتقوليها. أي نعم، ما فيش ضامن لكلامي، لكن لو سألتي عني هتعرفيني كويس. أنا جاي أساعد، مش أكتر.
بصت لي والدموع في عينيها، كانت كأنها مستنية شخص يحسسها إنه مصدق علشان تحكيله. وفعلًا، بدأت تحكيلي وتقول: “بص يا ابني، أنا هقول لك اللي أنا شفته بعيني وحسيته بقلبي. ولو عايز تساعد بجد، بالله عليك ما تكتب كلمة تانية عن ممدوح. كفاية اللي شافه وهو عايش. واللي أقصده باللي شافه إن هو بس اللي يعرفه. أصل ابني لا كان بيتكلم مع حد، ولا كان بيحكي حاجة. لكنه في الفترة الأخيرة كان يا إما دايمًا قاعد في أوضته قدام اللاب توب بتاعه، يا بينزل يقضي مشاوير، وكل ده من غير ما يقول لحد بيعمل إيه. وكل اللي كان على لسانه حاجة واحدة، إنه قدام مقالة كبيرة قوي وهتكسر الدنيا. وفضل كده لحد ما في ليلة، صحيت على صوته وهو بيصرخ. ولما فوقته، وناديه جابت له مياة، فضل مغمض عينيه ومش راضي يفتحها.”
“وكل اللي كان على لسانه حاجة واحدة بس: الموت. ولما طمنته وقلت له إني جنبه وإنه مش هيحصل له حاجة، فتح عينه وجسمه بدأ يتنفض من مكانه وهو بيقول لي إنه ما ينفعش يفتحها. ومن غير ولا كلمة ثانية، غمض عينه ورجع ينام. تاني يوم، صحي ونزل، ولما رجع في آخر الليل كان تعبان ومش شايف قدامه. ومره واحدة، وقع على الأرض وبين إيديا قطع النفس وما كانش بينطق. وقتها ما صدقتش إنه مات. كلمت الدكتور يجي يكشف عليه، ولما وصل قال لي إنه مات موت طبيعي. لكن لا، أنا ابني اتقتل، واللي قتلوه هم اللي كانوا بيدوروا وراهم. أنا ابني اتقتل.
أقسم بالله ابني اتقتل، غصب عني قلبي وجعني وعيني دمعت. ولقيتني مصدقها وحاسس بيها. رديت على كلامها وقلت لها: “وحقه مش هيروح هدر. أنا مش هسيب اللي تسببوا في أذيته.”
“غير وهم بيتحاسبوا.”
“أنت مصدقني يا ابني؟”
“مصدقك يا أمي، وأقسم لك بالله حق ممدوح مش هيروح.”
“طيب هما مش مصدقين ليه؟ أنا أمه، وأكتر واحده عارفة اللي حصل، وأكيد هم مش عايزين يجيبوا حق ابني صح؟ صح يا ابني؟”
في اللحظة دي، انهارت في العياط. ولأني ما كنتش عارف أتصرف معاها ولا أعمل إيه، ناديت ناديه وقلت لها تيجي تهديها. وبعدها أخذتها على أوضتها علشان ترتاح. وطبعًا، كل ده وأنا قاعد برة بفكر في كلامها كويس، وظليت سرحان في كلامها لحد ما ناديه جات.
خرجت وطمنتني عليها، لكن قبل ما أمشي، طلبت منها إني أخش أوضة ممدوح. ولأنها كانت صغيرة ومش عارفة تقول لي إيه، أخذتني لحد الأوضة وقالت لي: “أدي الأوضة أهي، بس ما تفضلش جوه كتير بعد إذنك!”
هزيت لها راسي ودخلت الأوضة. وبمجرد ما دخلت، لقيت ورق كتير في كل حتة، كان حد قلب في الورق ده بعد ما ممدوح مات. ومع ذلك، نظرة سريعة بين الورق، يمكن ألاقي حاجة تفيدني. واللي توقعته، هو إني شفت رسمه بالرصاص ما بين الورق، والرسمه كانت لشخص ضهره محني وموجود جوه حاجة ما قدرتش أحددها، وده نتيجة إن الرسمه ما كانتش أحسن حاجة. لكن اللي لاحظته هو اللي في ضهر الورقة. لقيت مكتوب عليها كلمة “موت”. وفي وسط زحمة الورق، لقيت قصاقيص صغيرة جدًا، وفي واحدة مكتوب عليها…”
“عليها الحرب العالمية الثالثة. وعلشان الوقت ما ياخدني، خدت الرسمه والورقة وحطيتهم في جيبي. ولما خرجت من الأوضة، قلت لنادية: ‘هو مين اللي قلب في الورق ده؟’
ردت علي وهي بصّة للارض: ‘في حد جه وماما في القسم قال إنه زميلكم وطلب إنه يدخل يقعد في الأوضة لوحده. ولما خرج كانت بالمنظر ده، وكان معاه حاجات في إيده. ولما حاولت أتكلم، هددني. ومن وقتها وأنا خايفة أقول لماما. بس هو في إيه؟ ممكن تفهميني اللي بيحصل؟ أنا خايفة.’
فقلت لها: ‘ما تخافيش يا حبيبتي، كله هيبقى تمام.’
ما قدرتش أقول لها حاجة أكتر من كده، لأني في وسط كل اللي بيحصل كنت أكتر واحد خايف ومش فاهم. وعلشان أفهم، ما كانش قدامي غير دكتور طارق، الدكتور المسؤول عن التشريح وورديته بالليل. ولأن الوردية كانت لسه قدامها شوية، رجعت البيت وراحت أريح ضهري على السرير. ومن غير ما أحس، رحت في النوم.
ولما صحيت، لقيت نفسي على سرير التشريح مرة تانية. والمره دي شفت نفس الشخص اللي شفته في الرسمه، كان ضهره محني وباصص الناحية التانية. وبمجرد ما بص لي، غمضت عيني بتلقائية. وحسيت بحرارة شديدة جدًا فقت منها على صوت المنبه وهو بيرن. وبمجرد ما بصيت في الساعة، لقيتها 11 بالليل. يعني على ما أغير وأنزل، هكون لحقت دكتور طارق في عز الوردية.
غيرت ونزلت له. وأول ما وصلته، عم فتوح شافني، قلب وشه عليا وقال لي:
‘إيه اللي رجعك تاني يا أستاذ؟! أنت ما تعرفش إن فتوح ما بيتعلمش عليه مرتين؟ وأنا حالف لو شفتك مش هيبقى فيها خير أبدًا!’
طلعت فلوس من جيبي وطبقتهم في جيبه وأنا بقول له: ‘أنا بتأسف لك يا سيدي، المرة اللي فاتت دماغي انشغلت في حاجة كده، عشان كده سبتك ومشيت. أما دلوقتي، فأنا جاي عشان عايزك في مصلحة جديدة. والمصلحة دي سهلة وبسيطة، أنا عاوزك تخليني أقابل دكتور طارق.’
رد: ‘أه وماله، سماح المرة دي بس. لكن انت ما تعرفوش إن دكتور طارق ده ما بيتشافش يا أستاذ. ومعنى إنك تشوفه يعني انت، عدم مؤاخذه، يعني ميت.’
فقلت: ‘والحل يا عم فتوح، ده انت الدماغ كلها. وأكيد يعني مش هتضيع عليك المصلحة.’
قال: ‘أضيع؟ ومن أمتى فتوح بيضيع؟ فتوح يعمل أي حاجة. والحل بسيط، كل اللي محتاجه منك، إنك تعلي صوتك بس. افتكر لو عملتها، هشرحك وإنت واقف.’
فقلت له: ‘تشرح مين يا عم؟ انت ما تنقي ألفاظك. أنا أقسم بالله مستحملك بالعافية لما قلت كده!’
علّ صوته أكثر وهو بيقول لي: ‘انت كمان بترد عليا؟ طب وديني ما احلك يا جدع. انت تعالى بقى.’
مسكني وصوتنا عيّل أكثر. وقتها، لقيت راجل طالع من المشرحة وهو متعصب. كان لابس نظارة سودا غريبة، والنظارة دي مغطيّة عينه من كل الاتجاهات. ده غير البالطو الأبيض اللي مبين إنه دكتور. وفي جيب البالطو كان حاطط قلم شكله جديد. ومع خروجه، لقيت عم فتوح بيشوش لي بصوت وبيقول لي: ‘مش قلت لك سهلة؟ أدي الدكتور أهو. ما تنسانيش بقى.’
وبعدها على صوته تاني وهو بيكلم الدكتور طارق: ‘والله لولا إنك طلعت بنفسك يا دكتور، أنا كنت عملت معاه سليم.’
ما داش اهتمام لفتوح وبصلي وهو بيقول لي:
‘إيه يا أستاذ، جاي ليه؟’
.
.
.
.
يتبع